الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وسلم وبعد، ليعلم أن الأشاعرة لخصوا عقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى في طبقات الشافعية الكبرى: “ أبو الحسن الأشعري كبير أهل السنة بعد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وعقيدته وعقيدة الإمام أحمد رحمه الله واحدة لا شك في ذلك ولا ارتياب وبه صرح الأشعري في تصانيفه وذكره غير ما مرة من أن عقيدتي هي عقيدة الإمام المبجل أحمد بن حنبل، هذه عبارة الشيخ أبي الحسن رحمه الله تعالى في غير موضع من كلامه”
اعلم أن أبا الحسن رحمه الله لم يبدع رأيا ولم ينشئ مذهبا، وإنما هو مقرِّرٌ لمذاهب السَّلف، مناضلٌ عما كانت عليه صحابةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقا وتمسَّكَ به، وأقام الحججَ والبراهينَ عليه، فصار المقتدِي به فى ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمَّى أشعريا،
وقد ذكر الشيخ- شيخ الإسلام- عز الدين بن عبد السلام رضي الله عنه أن عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة،
ولم يكن أبو الحسن رحمه الله تعالى أوَّلَ متكلم بلسان أهل السنة، إنما جرى على سنن غيره، وعلى نصرة مذهب معروف، فزاد المذهب حجَّة وبياناً، ولم يبتدِع مقالة اخترعها، ولا مذهبا انفرَد به، ألا ترَى أن مذهب أهل المدينة نُسب إلى مالكٍ، ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له مالكي، ومالكٌ إنما جرى على سنن من كان قبله وكان كثير الإتباع لهم، إلا أنه لمَّا زاد المذهب بياناً وبسطاً عُزي إليه، كذلك أبو الحسن الأشعري لا فرق، ليس له فى مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وتواليفه فى نصرته
وكان ابو الحسن الاشعري رضي الله عنه يحضر مجالس أبي عثمان أئمةُ الوقت كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والأستاذ
الإمام أبي بكر بن فورك وسائر الأئمة
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في ترجمته للإمام الأشعري:" وصنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة، وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى، ورؤيته، وقدم كلامه، وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة ودفع شبه المبتدعة
وصفه الذهبي بأنه فريد العصر علما ومعرفة وذكاء وحفظا وكرما وزهدا وفرط شجاعة..
رجع الإمام ابو الحسن الاشعري رضي الله عنه إلى اهل السنه
والجماعة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروى الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى تبيين كذب المفتري نسب إلى الإمام الأشعري ص39. أنظر أيضا: ترتيب المدارك للقاضي عياض رحمه الله، 5/28 / طبقات الشافعية للسبكي، 2/246.
مبدأ رجوعه أنه كان نائماً في شهر رمضان، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا علي انصر المذاهب المروية عني، فإنها الحق. فلما استيقظ دخل عليه أمر عظيم، ولم يزل مفكراً مهموماً من ذلك وكانت هذه الرؤيا في العشر الأول، فلما كان العشر الأوسط، رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثانياً فقال: ما فعلت فيما أمرتك به؟
فقال: يا رسول الله، وما عسى أن أفعل وقد خرجت للمذاهب المروية عنك محامل صحيحة؟! فقال لي: انصر المذاهب المروية عني فإنها الحق.. فاستيقظ وهو شديد الأسف والحزن، وأجمع على ترك الكلام، واتباع الحديث وملازمة تلاوة القرآن..
فلما كانت ليلة سبع وعشرين، وكان من عادته سهر تلك الليلة أخذه من النعاس ما لم يتمالك معه السهر، فنام وهو يتأسف على ترك القيام فيها فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ثالثاً، فقال له: ما صنعت فيما أمرتك به؟ فقال: تركت الكلام يا رسول الله، ولزمت كتاب الله وسنتك.
فقال له: أنا ما أمرتك بترك الكلام، إنما أمرتك بنصرة المذاهب المروية عني، فإنها الحق. قال: قلت يا رسول الله، كيف أدع مذهباً تصورت مسائله، وعرفت دلائله منذ ثلاثين سنة، لرؤيا؟
قال: فقال لي: لولا أني أعلم أن الله يمدك بمدد من عنده، لما قمت عنك حتى أبين لك وجوهها، فجدّ في ذلك، فإن الله سيمدك بمدد من عنده فاستيقظ وقال: ما بعد الحق إلا الضلال، وأخذ في نصرة الأحاديث في الرؤية والشفاعة والنظر وغير ذلك. وكان يفتح عليه من المباحث والبراهين لما لم يسمعه من شيخ قط، ولا اعترضه به خصم، ولا رآه في كتاب..!!
الذي روى القصة السابقة هو السبكي في طبقاته، ولعلي لا أميل إلى تحبيذ صحتها، وأنها سبب لنقلة الإمام الأشعري من الاعتزال إلى أهل السنة والسلف، فكثيرون هم الذين تتغير مواقفهم ويرشدون في هديهم دونما رؤى منامية.
أو أن يكون الزائر في المنام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الإصرار على إمداده بمدد من الله، قد يريد من وراء هذا اللفظ إضفاء قداسة من نوع على مختارات الأشعري، وهؤلاء يليق، فإن كثيرين من العلماء من أهل السنة والسلف على مر السنين رأوا مخالفة أبي الحسن في أمور رأوه فيها على غير منهج أهل السنة والسلف، فكان في نظري ترك ذكرها أولى وأجدر!
ثناء العلماء عليه
ذكر الإمام القشيري رحمه الله تعالى أن أصحاب الحديث اتفقوا أن أبا الحسن علي بن اسمعيل الأشعري رضي الله عنه كان إماما من أئمة أصحاب الحديث ، ومذهبه مذهبهم تكلم في الأصول على طريقة أهل السنة ، ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدعة ، وكان على المعتزلة والمبتدعين والخارجين سيفا مسلولا ، تفقه الأشعري على أبي إسحق المروزي وزكريا بن يحيى الساجي.
قال الأستاذ الإمام الإسفراييني رحمه الله تعالى الفقيه الأصولي : ” كنت في جنب الشيخ الباهلي كقطرة في البحر ، وسمعت الشيخ أبا الحسن الباهلي يقول : كنت أنا في جنب الأشعري كقطرة في جنب البحر “.
وقال البيهقي : ” إن أبا الحسن الأشعري رحمه الله لم يحدث في دين الله حَدَثا ، ولم يأت فيه ببدعة ، بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين فنصرها بزيادة وشرح وتبيين ، وأن ما قالوا في الأصول وجاء به الشرع صحيح في العقول خلاف ما زعم أهل الأهواء فكان في بيانه تقوية لنصرة أهل السنة والجماعة من الأئمة كأبي حنيفة وسفيان الثوري من أهل الكوفة ، والأوزاعي وغيره من أهل الشام، ومالك والشافعي من أهل الحرمين ، وأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث كالبخاري ومسلم إمامي أهل الآثار وحفاظ السنن التي عليها مدار الشرع رضي الله عنهم أجمعين
! سؤال
فى مرحلة رجع الإمام ابو الحسن الاشعري رضي الله عنه من المعتزلة إلى عقيدة السلف وأهل السنة هذا واقع بلا منازع
ويبنون النابة الوهابية على هذه الدعوى أن الأشاعرة اتبعوا الإمام الأشعري وهي التي كان فيها متبعاً لعبدالله بن سعيد ! إذ عندهم أن عبدالله بن سعيد بن كلاّب ليس من أهل السنة ، وأن الأشاعرة متبعون له لا للإمام أبي الحسن لأن الإمام رجع عن عقيدة ابن كلاّب في مرحلته الثالثة ، وألّف على عقيدة السلف كتابه الإبانة وبعض كتبه الأخرى
والجواب
كلا، ليس الأمر كما جاء في هذه الدعوى ، بل الحق الذي لا مرية فيه هو أن الإمام لم يمرّ في حياته إلا بمرحلتين ، الاعتزال ثم الرجوع إلى طريق السلف ،
ارجع يا اخي إلى كتب التاريخ لا نجد أي إشارة إلى هذا لا من قريب ولا من بعيد ، بل نجد المؤرخين كلهم مطبقين على أن الإمام أبا الحسن بعد هجره للاعتزال والمعتزلة رجع إلى مذهب السلف الصالح ، وصنف على طريقتهم كتبه اللاحقة الإبانة وغيرها من الكتب التي صنفها في نصرة مذهب أهل الحق .
قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى (تبيين كذب المفتري ص/127 ):
( انتقل الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية ، وصنَّف في ذلك الكتب . . ) اهـ .
وقال عنه ابن خلكان ( وفيات الأعيان 3/284 ):
(هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة . . . وكان أبو الحسن أولاً معتزلياً ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ) اهـ .
وفي سير أعلام النبلاء ( 15/89) قال عنه الذهبي :
( وبلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة ، وقال : إني كنت أقول بخلق القرآن . . . وإني تائب معتقد الردّ على المعتزلة ) اهـ .
وعند العلامة ابن خلدون رحمه الله ( المقدمة ص/853):
( إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري وناظر بعض مشيختهم ـ أي المعتزلة ـ في مسائل الصلاح والأصلح ، فرفض طريقتهم وكان على رأي عبدالله بن سعيد بن كلاّب وأبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة ) اهـ .
فأثبت أن الإمام بعد رجوعه عن الاعتزال كان على رأي عبدالله بن كلاّب والقلانسي والمحاسبي وهؤلاء كلهم على طريقة السلف والسنة
وهكذا كل كتب التاريخ التي ترجمت للإمام أبي الحسن ، مثل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، وطبقات الشافعية للسبكي وشذرات الذهب لابن العماد والكامل لابن الأثير وتبيين كذب المفتري لابن عساكروترتيب المدارك للقاضي عياض وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة وطبقات الشافعية للأسنوي والديباج المذهب لابن فرحون ومرآة الجنان لليافعي وغيرها ، كلها مطبقة على أن الإمام أبا الحسن بعد توبته من الاعتزال رجع إلى مذهب السلف والسنة
هل كان ابن كلاّب على خلاف طريق السلف الذي ألَّف الإمام الأشعري الإبانة عليه ؟
أن طريق ابن كلاب وطريق السلف هما في حقيقة الأمر طريق واحد ، لأن ابن كلاب كان من أئمة أهل السنة والجماعة السائرين على طريق السلف الصالح
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ( الفتح 1/293 )
( البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم ، وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي وأبي عبيـد وأمثالهـما ، وأما المسائـل الكلامية فأكثرها من الكرابيـسي وابن كُـلاَّب ونحـوهما ) اهـ .
قال التاج السبكي في الطبقات ( الطبقات 2 /300 ):
(وابن كلاّب على كل حال من أهل السنة . . . . ورأيت الإمام ضياء الدين الخطيب والد الإمام فخر الدين الرازي قد ذكر عبدالله بن سعيد في آخر كتابه “غاية المرام في علم الكلام ” فقال : ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبدالله بن سعيد التميمي الذي دمّر المعتزلة في مجلس المأمون وفضحهم ببيانه ) اهـ.
هذه نصوص واضحة بينة في أن الإمام عبدالله بن سعيد بن
كلاب كان على طريق السلف والسنة
.